أنغام.. صوت مصر الأصيل تخوض "معركة المرض بثبات"

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين كانت الأغاني السريعة ذات الإيقاع الراقص تسيطر على المشهد، وقفت المطربة أنغام أمام التيار بكل ثقة، لتؤكد أن الفن الحقيقي لا يخضع للموجة، وأن الجمهور مهما انشغل بالسرعة والانبهار المؤقت، سيظل في حاجة إلى الطرب الأصيل، الذي اعتاد عليه من أم كلثوم وفايزة أحمد وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، وغيرهم من النجوم.

وفي أحد حواراتها القديمة، وتحديدًا عام 1997، وصفت أنغام موقفها قائلة: "نحن دائمًا نتهم الجمهور بأنه يريد الرقص والتصفيق، أنا أرى العكس تمامًا، المشكلة تكمن في أننا لا نعطيهم اختيارات متنوعة، لذا أرفض تمامًا اتهام الجمهور بأنه لا يشجع الفن الراقي".

في هذه التصريحات يبدو إصرار أنغام القوي ومراهنتها على ذائقة الجمهور، خصوصًا أنه في هذه الفترة كانت تسيطر على تيمة الحفلات الغنائية، ما يسمى بالأغنيات الشبابية والتي يرقص عليها الشباب، لكن المطربة المصرية التي تربت على أغنيات فيروز، وقفت لتغني "شنطة سفر" و"بتحب مين" وينسجم معها الجمهور ويردد كلمات أغنياتها، في حالة فنية مختلفة عن السائد.

أنغام وفيروز

كانت أنغام في طفولتها تعشق أغنيات فيروز، وتراقب تصرفاتها على المسرح، لذا عشقت عالم الموسيقى، خصوصًا أنها وُلِدت وسط أسرة غارقة في الموسيقى حتى النخاع، لتقول في إحدى حواراتها عن هذه النشأة: "منذ بدايتي لم أكن أحلم غير أن أكون فنانة، فأنا من بيت كله فن، فأمي وخالتي وجدتي من جهة الأم كن جميعًا يغنين وخالي كان موسيقيًا، بينما يمتد الإرث الموسيقي من جهة والدي، إذ إن جدي كان الملحن علي سليمان، ووالدي الموسيقار المعروف محمد علي سليمان، وعمي المطرب الراحل عماد عبدالحليم".

هذه النشأة الاستثنائية دفعت أنغام إلى دخول معهد الكونسرفتوار وهي في الصف الثالث الابتدائي، حيث درست آلة البيانو، دون أن تتلقى أي تعليم مباشر في الغناء خلال تلك المرحلة، ولاحقًا انتقلت إلى معهد الموسيقى العربية، حيث بدأت تتعلم العزف على العود، ولفتت أنظار أساتذتها بصوتها، حتى إنهم أرادوا أن تتخصص في الغناء الأوبرالي.

لكن شغف أنغام كان في مكان آخر، فقد تأثرت منذ الصغر بأداء الفنانة اللبنانية فيروز، ووصفت وقفتها على المسرح وطريقتها في الغناء بأنها كانت مصدر إلهام عميق، وحول ذلك تقول: "كنت مغرمة بفيروز، وقفتها على المسرح وأسلوبها جعلني أنجذب ناحية الغناء الشرقي، وليس الأوبرالي".

شخصية أنغام الفنية

ومنذ تلك اللحظة، بدأت ملامح شخصية أنغام الفنية تتشكل، مزيج بين تكوين أكاديمي صارم، وذوق فني شرقي أصيل، لتبدأ رحلتها كواحدة من أبرز الأصوات في العالم العربي، وهذه الرحلة التي رافقها فيها ببدايتها والدها محمد علي سليمان الذي اكتشف موهبتها وقدمها مبكرًا وهي طفلة في سن 12 عامًا، حين غنت معه في مسلسل "الأرض الطيبة" عام 1984، ثم قدمها والدها إلى الإذاعة وهي في الـ15 من عمرها، أمام لجنة من عمالقة الموسيقى تضم كمال الطويل وحلمي بكر وأحمد فؤاد حسن وغيرهم، وبعد اجتياز الاختبار حصلت على اعتمادها كمطربة، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها.

عام 1987، وهي في الـ17، طرحت أول ألبوم لها بعنوان "في الركن البعيد الهادي" الذي حقق نجاحًا لافتًا وفتح أمامها أبواب الشهرة، خصوصًا أنه كان أحد أبرز الألبومات الغنائية عام صدوره، وتوالت بعدها الألبومات، ومنها "أول جواب"، و"لا ليلي لالي"، و"لايق"، و"اتفقنا"، و"أنت العالم" و"إلا أنا"، وكلها حملت بصمة والدها الفنية في التلحين والتوزيع، باستثناء تجارب قليلة منها أغنية "بسبوسة" التي لحنها محمد عبدالوهاب، موسيقار الأجيال الذي كانت تتمنى أن تقدم أغنية مشتركة معه.

الانفصال الفني

لكن مع عام 1994، شعرت أنغام بأن الوقت حان لتشق طريقها الفني بعيدًا عن ظل والدها، فانفصلت عنه فنيًا، وبدأت تعاونها مع نخبة من كبار الملحنين والموزعين، منهم عمر خيرت، وأمير عبدالمجيد، ورياض الهمشري، ويحيى الموجي، وأشرف محروس وأحمد الحجار، وهذه المرحلة أفرزت ألبومات مهمة منها "بقولك إيه"، و"أقدر"، و"بتحب مين" الصادر عام 1997 الذي كان بمثابة إعلان صريح عن تمسكها بخطها الفني الطربي رغم اكتساح الأغنية الراقصة.

حافظت أنغام على هذا النهج في أعمال لاحقة منها "خلي بكرة لبكرة"، و"وحدانية"، و"ليه سبتها"، و"عمري معاك"، و"كل ما نقرب"، و"نفسي أحبك"، و"محدش يحاسبني"، و"أحلام بريئة"، و"حالة خاصة جدًا"، وحتى أحدث أعمالها "تيجي نسيب" عام 2024.

وفي كل مرحلة، كانت تختار أغنياتها بعناية، واضعة المسرح في اعتبارها الأول، كما قالت ذات مرة: "دائمًا أفكر عند اختياري لأي أغنية، في كيف سيكون شكلها على المسرح، لأني حفلتي هي روحي".

مهما امتدت مسيرة أنغام الفنية، ومهما تغير الزمن من حولها، فهي تظل متمسكة بفكرة الوقوف على خشبة المسرح، وكيف ستعبر بأغنياتها إلى وجدان الجمهور، وذلك ما يجعل الكثير من أغنياتها أشبه بالقصص من واقع الحياة، وكأنها تحكي للجمهور في "شنطة سفر"، و"الركن البعيد الهادي"، و"تيجي نسيب" و"لا دبلت".

واجهت أنغام الكثير من التحديات الفنية والشخصية، لكنها في كل مرة كانت تثبت أنها قادرة على النهوض مجددًا، وهذا الصمود أمام المنافسة الفنية وتغير أذواق الجمهور، ربما لهذا السبب يراها كثيرون تستحق لقب "صوت مصر" لأنه صوت لا يتغير أو ينكسر أمام تحديات الزمن، ولم تتخلّ يوما عن جمهورها، بل أصرت أن تقدم له ما يؤمن به قلبها قبل أن يطلبه السوق.

أنغام التي عبرت بصوتها عن مشاعر الحب والغيرة والأحلام والفراق، ترقد اليوم في المستشفى وتواجه أزمة صحية، ويبدو أنها أمام مشهد مألوف في حياتها، فهي في مواجهة تحدٍ جديد، ويثق جمهورها في أنها كما قاومت في السابق موجات الغناء السريع، وتمسكت بالطرب، ستقاوم المرض بالإصرار ذاته، لتعود إلى المسرح الذي تعشقه.

 

التعليقات