سقط المرشد .. وبقيت الدولة الدينية!

 

مازال في القلب وجع، ومازالت في الفم مرارة الحسرة والحزن على أرواح المصريين الذين خطفت أرواحهم يد الغدر والكراهية في الكنيسة البطرسية.
وقعت الجريمة وصدرت البيانات وتوالت كالعادة كلمات الرثاء والمواساة، وإستقبلت الكنيسة كبار المعزين والزوار، ثم.. جفت الدموع وصمتت الأجراس وأطفئت أنوار صالات العزاء وعاد أهالي الضحايا محطمة قلوبهم إلى ديارهم، وبقيت الأسئلة المؤلمة: هل تكون جريمة الكنيسة آخر الأحزان؟ وهل تهدأ مشاعر الحقد والكراهية للمتعصبين التكفيريين الذين يمتلكون في أيديهم مفاتيح الجنة والنار؟ وهل سيقف السلفيون حداداً على أرواح الضحايا ويعتبرونهم شهداء؟ هل ستعين الحكومة محافظاً مسيحياً وتسمح للمسيحيين بتولي المناصب وبأن يتخصصوا في طب النساء والولادة والجراحة في كليات الطب وتسمح لمعلمة مسيحية بأن تكون ناظرة مدرسة حكومية كل تلميذاتها محجبات؟
وهل ستملك الحكومة النية والارادة لمنع حرق الكنائس والبيوت وتهجير عائلات المسيحيين من قراهم، وهل ستجرؤ على محاكمة كل المجرمين الذين اعتدوا على عائلات ونساء وعجائز وبنات بدون ذنب إلا لأن ديانتهم مختلفة وصلواتهم مختلفة؟ هل توقف الحكومة سلوكيات الاهانة و"الازدراء"من جانب شخصيات متطرفة تحرض علناً على الكراهية وتدعو الناس لعدم تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟

 

إن هذه المظاهر المرعبة لم تكن موجودة في مصر على مدى تاريخها إلى أن جاء السادات في السبعينات بسياسة التحالف والنفاق مع الاسلاميين لمحاربة اليسار والشيوعيين فقرر تعديل الدستور ليضع في المادة الثانية منه النص الذي حول مصر إلى دولة دينية "،  ومنذ ذلك اليوم بدأ إحتكار الاسلاميين للدين وللقانون والتعليم .. مدارس وجامعات ونقابات ومستشفيات خاصة ومستوصفات ومساجد الدولة وجمعيات خيرية بالمئات ومجالس محلية وتجارة تجزئة ومحلات ملابس للمحجبات وكوافيرات وفنادق ومطاعم وسيطروا على أجهزة الاعلام وتوغلوا في المصالح الحكومية والوزارات السيادية والسفارات، وبدأوا مخططهم الكبير بعد السيطرة على مفاصل الدولة للقفز إلى السلطة ، حتى حانت لهم الفرصة في 25 يناير فلم تكن هناك قوة منظمة غيرهم وبدأوا في  تحقيق حلمهم القديم لاعلان مصر دولة دينية والقاهرة عاصمة للخلافة.
وكان طريقهم سهلاً والأرض ممهدة أمامهم والمجتمع جاهزاً بالجلابية الباكستانية وحجاب التوحيد والنور ، خطباءهم على منابر آلاف المساجد والزوايا وفي إنتظارهم مئات الآلاف من العائدين من الخليج المغسولة عقولهم بالوهابية والريال السعودي.
وفي 30 يونيو عندما إكتشف المصريون طمع الاسلام السياسي واحتكار الاخوان للسلطة وجهلهم وفشلهم في إدارة شئون البلاد.. خرج الشعب وطردهم، ولكن هل استعاد المصريون دولتهم الوطنية ، دولة المواطنة والقانون واحترام الأخر؟!
هل تخلص المصريون من مظاهر الدولة الدينية وطردوها مع الاخوان؟
..أبداً.. لقد ذهب المرشد وبقيت الدولة الدينية!
وعندما هتف المصريون بسقوط حكم المرشد، لم يهتف العديد منهم  بسقوط الدولة الدينية ولم يكن في نية من تسلموا السلطة من الاخوان أن يستعيدوا ملامح الدولة المدنية التي كافح المصريون لبناءها منذ عصر محمد علي وحتى بداية السبعينات.
وللاسف نحن اليوم لابد أن نعترف بأن مصر دولة دينية !

 

نحن نعيش في بلد يملك دستوراً يزعم أنه "مدني"، نصوصه مدنية وظاهره مدني ولكنه دستور كتبناه بالنوايا الطيبة وأودعناه الأدراج، دستور لا تحميه قوانين ولا تطبقه الحكومة ولا تحترمه الثقافة الرسمية ولا الإعلام ولا المحاكم ولا توجد له بصمات في حياة الناس وسلوكياتهم.
كيف يطبق دستور مدني في دولة دينية تعليمها ديني يكرس التمييز بين المواطنين ويفرق بينهم على أساس دينهم ومعتقداتهم؟
-          أليست الدولة الدينية فقط هي التي يوجد في برلمانها لجنة خاصة بالشئون الدينية؟
-          أليست الدولة الدينية هي التي تستعين برجال الدين في حل مشاكل المواطنين ومنازعاتهم بدلاً من اللجوء للقانون؟
-          أليست الدولة الدينية هي التي تطلب رأي رجال الدين في القوانين والتشريعات، وتحيل الأحكام للمفتي ليصادق عليها؟
-          أليست الدولة الدينية هي التي تسمح بإنشاء جامعات ومدارس دينية تسمح بتعليم مواطنين وتمنع مواطنين آخرين من دخولها؟
-          أليست الدولة الدينية هي التي تسمح لبعض مواطنيها بممارسة شعائرهم الدينية وبناء دور عبادتهم في أي مكان.. فوق الحدائق وفي عرض الطريق ومداخل العمارات والجراجات، بينما تضيق على البعض الآخر وتقيد حقهم في بناء دور عبادتهم؟!
إن هناك من يقول أن مصر لا يمكن أن تصبح بلداً للطوائف والمذاهب، .. مصر لا يمكن أن تصبح مثل لبنان  ،ولا يمكن أن يكون  فيها مثل بيروت هذا الحي للمسلمين السنة وهذا الجزء من البلد للمسلمين الشيعة، ولا يمكن أن يكون هذا الشارع للموارنة وهذه المنطقة للأرمن.
إن المصريين الذين يحمدون الله كل يوم أنهم ليسوا مثل سوريا أو العراق، لا ينتبهون للأسف أنهم يقتربون شيئاً فشيئاً من لبنان الطائفي الذي يخشونه ، فهناك الآن في مصر مدارس مسيحية لايدخلها مسلمون ومدارس إسلامية لا يدخلها مسيحيون، وهناك مستشفيات ونواد وأماكن ومطاعم معظم روادها مسيحيون لا يجدون مكاناً لهم في أماكن يحتكرها بعض المسلمين ويصبغونها بطابع ديني واضح، ولقد أصبحنا نرى عمارات لا يسكنها إلا المسيحيين وأخرى يرفض أصحابها أن يكون جيرانهم مسيحيين، وهناك منتجعات في مصر أغلب روادها مسيحيين وشواطئ للمحجبات فقط!.

 

فهل هذه هي مصر التي نعرفها والتي كنا نتباهى بين بقية الشعوب بأنهاأم الدنيا ومهد الحضارة وحاضنة الثقافات ، وبأن الانسان فيها آمن على حياته وعلى ماله وأبناءه ودينه وعقيدته؟!
هل هذه مصر التي كانت على مدى تاريخها ملاذاً للمضطهدين وملجأ للهاربين من الظلم في كل مكان؟
إننا للأسف نخطئ عندما نلوم مصرالوطن فهو برئ من جهل وتطرف بعض أبناءها الذين يزرعون الفتنة كل يوم ويضربون بالقانون والدستور عرض الحائط، ويقيمون الحواجز بين أبناءها ويبنون وطناً للكراهية، ثم يهتفون:  أبداً لن نكون مثل لبنان! .

 

         
التعليقات