ثقافة التبرع الغائبة في مصر
فجر خطاب الرئيس السيسي حول التبرع "صبح على مصر بجنيه" مجموعة من التعليقات والملاحظات، غفلت معظم الحديث عن "ثقافة التبرع" الغائبة والمشوشة في مصر.
ونحن في مصر تعودنا أن التبرع في العادة يكون في إطار عمل الخير و كان دائما التبرع مرتبطاً بمؤسسة دينية أو جمعية خيرية شبه دينية. تعودنا أن نتبرع لبناء مسجد أو لترميم كنيسة أو لجمعيات تابعة لمسجد أو لكنيسة أو لملجأ أو مستوصف تحت ادارة دينية . تعودنا أن نعطي مالا لمن يحتاج من حولنا و كل هذا يعتبر تبرعات مبنية علي مطالبات شخصية غير منظمة و غير مستدامة.
و قبل أن نحلل ضعف ثقافة العطاء و التبرع المنظم " philanthropy" في مصر يجب أن نتفق أن مبدأ " ما يحتاجه البيت يحرم علي الجامع" هو مبدأ صحيح و مشروع في العالم كله. فلا يجوز أن تحرم بيتك من الأساسيات حتي تتبرع لأي غرض. و حتي يفيض لدينا ما يمكن أن نتبرع به و حتى نزرع ثقافة التبرع و العطاء فيجب أن تتوفر عدة آليات:
١) يجب أن نبدأ بتوعية المجتمع القادر على الإدخار و هذه ثقافة لا نعرفها في مجتمعنا و ليست شائعة.. تعودنا أن نعيش اليوم بيومه.
٢) يجب أن نفتح للمواطن القادر مجالات مختلفة للتبرع و الآليات المعترف بها عالميا لتلقي التبرعات لأغراض و مشروعات محددة ترعاها مؤسسات المجتمع المدني التي قام قانون الجمعيات الأهلية الجديد بنسفها و غلقها و تسبب في إنتقال الكثير منها الي دول أخري.
٣) يجب أن نبدأ بمخاطبة عقل المتبرع وعدم الاكتفاء بإبتزازمشاعره من خلال إقناعه أن سبب التبرع مهم ومؤثر و أن تبرعه سيذهب في مشروع محدد له توقيت للبداية و النهاية وأنه سيتم التواصل مع المتبرع خطوة بخطوة أثناء سير المشروع.
٤) بعد أن نخاطب عقل المتبرع و نقنعه نبدأ في التأثير علي على ضميره الانساني والوطني ومسؤوليته تجاه المجتمع.
٥) بعد أن نكون لمسنا عقله وقلبه نبدأ في الدخول الي جيبه أو الي دفتر شيكاته ليكتب أكبر رقم علي الشيك أو ليلتزم بمبلغ سنوي أو شهري.
و هناك متبرعون يفخرون بالتبرع لمجالات قريبة من قلوبهم أو اهتماماتهم فهناك من يهتم بالثقافة و يتبرع لجمعيات ثقافية أوللمتاحف و هناك من يهتم بالصحة و يتبرع لجمعيات تعمل في هذا المجال و هناك من يهتم بالرياضة و يتبرع لتنمية المؤسسات الرياضية.. هكذا يدار المجتمع المدني الذي قتلته الدولة بعد إتهامه بتلقي أموال من الخارج و أنه يعمل في التجسس و العمالة إلى أن أصبحنا مجتمعاً عشوائياً بدون مجتمع مدني قوي منظم و صحي يمارس دوره في التنمية الاجتماعية ونهضة البلاد بالاستفادة من المبادرات الفردية.
أما الدولةفهى لايجب ان تتلقى تبرعات مباشرة و لكن تفرض ضرائب و رسوم طبقا للقانون. لا يمكن أن تحل الدولة محل الجمعية الأهلية و إذا أرادت أن تقوم بهذا الدور فعليها أن تتخذ من سياسات الحوكمة و المعايير في المحاسبة و الرقابة ما تتخذه الجمعيات الأهلية في الشفافية و طرح المشروعات و دراستها و توقيتاتها و لكن لا يمكن أن تقول الدولة: تبرعوا لصندوق تحيا مصر حتي تدعم بهذه التبرعات مصانع خاسرة أو موظفين فاشلين في مؤسساتهم أو سياسات غير منتجة ، وهنا فإن التبرعات تذهب هباء ولا تأتي
م بنتائج لأن من يتبرع مرة لن يتبرع مرة أخري و هذه هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها.
والجمعيات الأهلية ومنظومة المجتمع المدني يمكن أن تساهم مساهمة حقيقية في تنمية المجتمع المصري و لكن أولاً يجب تمكينها و عدم تخوينها. المجتمع القوي هو المجتمع الذي ترعاه وتحميه هذه الجمعيات و المؤسسات. و هنا نتساءل عن السر الذي يجعل أغنى رجل في العالم بيل جيتس يتبرع بمليارات لمؤسسته غير الهادفة للربح؟ هل تبرع من قبل بنفس المبالغ للحكومة الأمريكية؟ بالقطع لا. وما الذي جعل عملاق عالم المال وورن بافت يتبرع بكل ثروته لجمعيات أهلية في مجالات مختلفة؟ كيف تنفق أكبر متاحف العالم علي نفسها بدون أن تفرض أسعار تذاكر باهظة على الناس؟ كيف تنفق مؤسسات عالمية مثل فورد فاونديشن و كاريتاس علي مشروعاتهما ؟ كل هذه الجمعيات و المؤسسات تأتي أموالها من التبرعات .. كل داعم لهذه الجمعيات يتبرع و هو فخور و سعيد و علي يقين أن تبرعاته سوف تذهب نحو الغرض الذي تبرع له.
أين نحن من هذه الثقافة؟ إن التبرع ليس تسولاً وجباية أموال والسلام.. ولكنه مسؤولية بالدرجة الأولى و طلب التبرع ليس عيبا بل هو دور ومسئولية اجتماعية نبيلة ، و لكن جمع التبرعات أصبح علما يجب علينا أن نتعلمه و نعمل في إطار معايير وقوانين وحوكمة تنظم آليات لجمع التبرعات. إن إحياء المجتمع المدني و تشجيع الجمعيات الأهلية و إعادة الثقة والاعتبار لها، سوف يسهم بالتأكيد في تنمية مصر مجتمعيا و ثقافيا و إقتصاديا و لا ينبغي أن نخشي قبول تبرعات من الخارج أو من مؤسسات أجنبية لأن هذه المؤسسات تملك العلم و الكفاءة اللازمة لدراسة المشاريع و تنفيذها و ضمان إستدامتها "sustainability".
فهل تستحق مصر قانوناً مستنيراً يمنح المجتمع المدني قبلة الحياة من جديد؟