هل ماتت الأحزاب في مصر ؟!

تناولت في مقالة سابقة اهمية العلاقة الثلاثية بين الحكومة و قطاع الأعمال و المجتمع المدني ، و تحدثت عن اهمية الاضلاع الثلاثة لتنمية أي دولة ، وذلك لأن مشاكل الدول أصبحت ثقيلة و معقدة و لا يمكن لأي دولة مهما كانت قوتها المالية أن تنفذ خططها الطموحة لتنمية مستدامة بمفردها.

و تزامنت المقالة مع صدور  قانون الجمعيات الأهلية الجديد الذي أرى انه  يقطع الطريق أمام أي عمل جاد للنشاط الاهلي في مصر ، بل وسيكون السبب في قتل العمل الاجتماعي واجهاض نمو المجتمع المدني في مصر لسنوات طويلة  .
واليوم اتناول عنصراً آخر من عناصر المجتمع المدني الذي يتم قتله ايضاً بسبب قانون آخر سئ السمعة وهو قانون الأحزاب  الذي يدفن الان الحياة السياسية في البلاد ويجعل النشاط الحزبي في مصر مجرد ديكور ، ويحول الاحزاب الى منتديات للنميمة السياسية او الى كيانات هشة متصارعة فيما بينها ، وقياداتها مجرد عرائس ماريونيت في ايدي الامن !.
والمصريون لا يختلفون كثيرا عن باقي الشعوب التي خاضت تجارب حزبية عظيمة ، فحتي عام ١٩٥٢ كانت مصر تعيش حياة حزبية ناضجة وان شابتها بعض السلبيات ،و كانت الوزارات يجري تداولها بين حزب و آخر رغم وجود ملك علي رأس الدولة.
بعد ٥٢ ١٩و تولي ضباط يليو بقيادة عبد الناصر السلطة،  و بعد الغاء الأحزاب و الحياة النيابية ، عاش المصريون بدون أحزاب و لا حياة سياسية أ و معارضة لمدة طويلة، بل اعتاد المصريون علي الصوت الواحد والزعيم الاوحد ، وشهدنا نسخة اخرى من الحزب الشيوعي السوفيتي كان  اسمها  " الاتحاد الاشتراكي " الذي سيطر عليه المنافقون والفاشيون الذين اعتبروا " السياسة " حكرا عليهم ، واعتبروا ان مهمة السياسيين فقط هي تلميع و " تأليه" عبد الناصر .
بعد وفاة عبد الناصر جاء السادات و أراد أن يعطي للمجتمع المصري صبغة جديدة غير القبضة الحديدية التي كانت سائدة في عصر عبد الناصر ،  فغلف هذه القبضة الحديدية بقفاز حريري ،و تظاهر برغبته في التحول الديمقراطي و أنشأ مايسمى ب " المنابر "  التي حولها بقرار منه فيما بعد الي أحزاب تمولها الدولة وتمنحها مقراتها .و  مع مرور الوقت انكشفت لعبة السادات ، وعاد حكم الحزب الواحد في هيئة الحزب الوطني حزب الأغلبية ، الحزب الذي يرأسه رئيس الجمهورية بنفسه . و باتت الأحزاب الأخري تشارك الدولة في التمثيلية الديمقراطية بعدد محدود من المقاعد لنواب كانوا ينجحون  في انتخابات مجلس الشعب بإرادة الدولة وبموافقة  حزب الأغلبية ، الي جانب بعض النواب الذين كان يعينهم رئيس الجمهورية ،  و كان التعيين في الغالب من نصيب رؤساء بعض الأحزاب و قبطي أو اثنين حتي لا يقال أن مجلس الشعب ليس فيه أي مصري مسيحي !.

هذه المسرحية الديموقراطية جعلت النخب السياسية القديمة تبتعد عن الأحزاب ، و جعلت الأحزاب لا تستطيع بناء كوادر سياسية مستقبلية بسبب ضياع الطموح وغياب المنافسة السياسية ،والاهم هو غياب الهدف الاساسي للاحزاب وهو تداول السلطة عبر انتخابات ديموقراطية ، و أي حزب سياسي لا يسعي الي الحصول علي الأغلبية فهو ليس حزبا ويفقد سبب وجوده !. وأنا استغرب جدا هذه الايام عندما أرى رؤساء احزاب يتبارون في الاشادة بانجازات الحكومة وتأييد انتخاب الرئيس السيسي لمرة ثانية ، واتساءل لماذا لا يكتبون استمارات عضوية في ائتلاف دعم مصر ؟! ، .. لماذا انشأوا احزابهم اذا لم يكن لديهم برامج او بدائل اخرى ، او رغبة في تداول السلطة ؟
وكان هذا هو الاساس الذي قامت عليه التجربة الحزبية كما ارادها السادات والمستمرة حتى الان .. احزاب كرتونية ، ديكور سياسي ، كيانات وهمية وهياكل ادارية .. رئيس وسكرتير عام ولجان خاوية ومقرات معلقة عليها لافتات ، بلا تأثير على الارض ولا قواعد جماهيرية !!.
وعندما اكتب هذا الكلام ، فأنا لا اكتبه كمراقب من بعيد للحياة الحزبية ، فقد عشتها ومارستها بنفسي  مرتين. مرة من خلال المشاركة في تأسيس حزب الجبهة الديموقراطية في ٢٠٠٤ أثناء حكم مبارك و حبيب العادلي ، و مرة أخري مباشرة بعد ثورة ٢٥ يناير التي أحيت فينا الأمل لبناء حياة جديدة من خلال حزب المصريين الأحرار حيث ترأست مكتبه السياسي حتي أول انتخابات للحزب ، ثم أصبحت أمين عام الحزب. و كانت تجربتي في المصريين الأحرار غنية بالأحداث وخضنا معارك كبيرة ، عارضنا التعديل الدستوري ، ثم ساهمنا في اسقاط الجمعية التأسيسية الأولي لكتابة الدستور ، ثم قاومنا الجمعية الثانية التي هيمن عليها الاخوان وكان هدفها التأسيس لدولة دينية في مصر ، ثم أسسنا مع قوي سياسية أخرى  جبهة الانقاذ التي كانت رأس الحربة  في معارضة حكم محمد مرسي حتى اسقاطه ووضع نهاية لحكم الاخوان لمصر .
و فور خروج مرسي من الحكم ، بدأت الأحزاب الجديدة في الاندثار لأسباب عديدة حتي وصلنا لما وصلنا اليه. ويتساءل الكثيرون الان : أين الأحزاب القائمة ؟ ولماذا لا نسمع صوتها في البرلمان؟ .. وهل تم قتل الاحزاب ، وضاع الامل تماما في وجود حياة وحيوية سياسية في هذا البلد ؟
وحتى نضع ايدينا على اصل المشكلة دعونا نستعرض هذه المعلومات الاساسية حول " الحالة المصرية":

١) أي حزب سياسي ليس في الحكم و ليس في إئتلاف رسمي مع الحزب الحاكم هو طبقا للعلوم السياسية حزب معارض. و للاسف فإن الغالبية من شعبنا تعلمت وتربت على مفهوم خاطئ يعتبر أن من يعارض السلطة القائمة هو عدو وخائن أو عميل ، وبالتالي فإن أي حزب معارض هو هدف دائم للهجوم والتشويه من اعلام السلطة ومنافقيها .

٢) أي حزب سياسي يحتاج الي موارد مالية طائلة للعمل اليومي و لانشاء مكتبه الفني لدراسة السياسات و لاقتراح التشريعات و لتمكين نوابه في البرلمان من المعلومات حتي يتمكنوا من مناقشة القوانين في المجلس بطريقة علمية و للتحضير للانتخابات و لتدريب الكوادر و طبقا لقانون الأحزاب المصري: يتلقي أي حزب تمويله من خلال تبرعات من أشخاص طبيعيين و الاشتراكات و لا يجوز للحزب تلقي أي تبرع عيني أو مالي من شركات أو مؤسسات أو شخصيات اعتبارية. و لهذا السبب فإن الاحزاب الجديدة في مصر تبناها رجال أعمال يدركون اهميةالحياة الحزبية و لكن مع هذه الطريقة الفردية " الوحيدة" تقريباً في التمويل وفي ظل غياب رعاية الشركات الكبرى والكيانات الاقتصادية للاحزاب كما يحدث في الدول الديموقراطية، فإننا نواجه ما يسمي بتأثير المال السياسي علي الأحزاب و هذا شيء طبيعي ومتوقع .

٣) مراقبة الأجهزة الامنية للأحزاب من خلال زرع عناصر تعمل لحسابها تنقل المعلومات وتتلقى التعليمات ، يدمر الممارسة الحزبية الصحيةو يثير الشكوك والفتن والانقسامات داخل الاحزاب كما جرى في معظم الاحزاب المدنية التي ظهرت بعد ٢٥ يناير .

٤) انتشار مفهوم خاطئ لدى المصريين يخلط بين الحزب السياسي و الجمعية الخيرية ،و لتوضيح ما أعنيه: عندما كنت أمينا عاما في حزب المصريين الأحرار و عند زيارتي لمقارات الحزب  أو للاجتماع مع الاعضاء كنت  أسمع ان " الحزب لكي يتواجد على الارض بين الجماهير يجب أن يوزع لحمة في العيد و كراتين التموين في رمضان و ان ينشر قوافل طبية لعلاج الناس بالمجان " !. هذا الخلط بين العمل السياسي والعمل الخيري وتوزيع الصدقات على الفقراء حول التجربة الحزبية في مصر عملياً الى كيانات تشبه جمعية الاورمان وبنك الطعام ، وكانت نتيجته ان جماعة الاخوان تمكنت لسنوات طويلة من سد الثغرات التي لم تملأها الدولة والمحليات وقاموا هم بهذا الدور الاجتماعي في الاحياء الشعبية الفقيرة حتي خلقوا لانفسهم شعبية كبيرة خاصة مع استغلالهم للشعارات الدينية " الاسلام هو الحل " ، بينما كان هذا النشاط في الواقع رشاوي انتخابية شاهدنا تأثيرها فيما بعد عندما حانت اللحظة الفارقة السوداء عند انتخاب القيادي الاخواني محمد مرسي ليتولى حكم مصر .
وسوف يبقى حال الاحزاب المصرية والحياة السياسية على ماهو عليه لسنوات طويلة قادمة .. لاصوت يعلو فوق صوت السلطة وحوارييها ، إلا لو حدثت المعجزة وتم تغيير قانون الاحزاب الحالي.
واذا كان القرار في يدي لسعيت الى تغيير القانون فوراً ، و كنت شجعت قيام  الأحزاب المدنية و أغلقت الأحزاب الدينية الموجودة والمعروفة للجميع ، و كنت فتحت المجال في الاعلام الرسمي والخاص أمام الأحزاب للإعلان عن برامجها و لمناقشة القوانين المطروحة ، و كنت شجعت النخبة المصرية والشباب علي الالتحاق بالأحزاب و علي الاستفادة من الخبرات في تدريب كوادر سياسية و كنت تركت للشباب حرية النشاط السياسي المتحضر والمنضبط بالقانون في الجامعات ،وكنت نصحت الاعلام بأن يقول للشعب و للحكومة أن المعارضة ليست خيانة للوطن بل هي أفضل تعبير عن حب الوطن وتوجيه كل الطاقات من اجل خدمته ورفعته ومستقبله .

التعليقات